عاجلمنوعات

ثورة التقنيات العلمية وتداعياتها الأخلاقية رؤية فلسفية 

ثورة التقنيات العلمية وتداعياتها الأخلاقية رؤية فلسفية 

كتب دكتور عصام كمال المصري

إن التطور الذي يشهده العالم اليوم , وخاصة العلمي منه , أفرز العديد من المشكلات عكس ما كان يهدف إليه . هذه المشكلات التي مست الإنسان بالدرجة الأولى , الأمر الذي حتم على الفلسفة ضرورة قيامها بمساءلة أخلاقية تتسم بسمة النقد والتعدد لهذا التطور , بوصف الفلسفة المراقب والموجه للفكر , والتطور خاصة العلمي منه . فالتطور التقني والعلمي جعل العلوم تمتاز بالحركية والتغيير من حقبة زمنية إلى أخرى , ومع هذا التقدم الهائل , لم يكن للعلم يوماً رؤية تجعله يقر على حاله بفعل عدم وجود مبحث يختص بالعلوم , وكذلك بفعل الاكتشافات المتجددة , وهذا ما جعل الفلسفة تخوض في هذا الأمر من خلال تخصيص مبحث لفلسفة العلوم , التي تركز اهتمامها بمنطق ومنهج العلم , وخصائصه , وشروطه المعرفية العلمية , وكيفية تقدمها . بالإضافة إلى كافة العوامل الأخرى في عملية التقدم , حيث نجد أن فلسفة العلوم تقدم أسس معرفية , ومنهجية لتشكل عقلاً يساهم في حل المشاكل والعراقيل , التي تعترضه , ثم إزالة العقبات التي تعرقل المسيرة العلمية التقدمية , وبهذا فهي تقدم رؤية نقدية بناءه وهادفة ؛ لأجل حل مشكلة العلم مع محاولة بناء عقل علمي منشود .

إن عالمنا اليوم يشهد تقدماً علمياً وتكنولوجياً مذهلاً , ونحن نلمس ونلاحظ آثار هذا التقدم في حياتنا اليومية , ودائماً ما نتساءل : إلى أي مدى يمكن أن يؤثر هذا التقدم التكنولوجي على إنسانية الإنسان وأخلاقه ؟!! وذلك لإيماننا بأن أي تغيير علمي , أو تكنولوجي مهما كان حجمه لابد أن يكون له انعكاساً على الجانب الأخلاقي من قريب , أو بعيد . فما بالنا بهذه الطفرة التكنولوجية التي لم تترك مجالاً في حياتنا اليوم إلا ولامسته , سواء بشكل مباشر , أو غير مباشر . خاصة وأن الأمر لم يقف عند هذا الحد من التقدم بل سينمو ويتضاعف في السنوات القادمة . لهذا فإن الأخلاق المعاصرة تضع الإنسان كفرد , أو كمجموع في مركز اهتمامها ولذلك كان أكثر ما تنادي به الأخلاق الحياتية , هو أن الحياة الإنسانية بشكل عام تتضمن شكل من أشكال القيمة الإنسانية , واحترام هذه القيمة الإنسانية يشكل المنطلق , أو الأساس للمبادئ الأخلاقية خاصة وأن الفكر الأخلاقي القديم كان عاجزاً عن تقديم الحلول لها .
لذا سعي الفلاسفة المسلمون إلى ربط القيم الأخلاقية بالممارسة التطبيقية وبالتالي أصبحت الأخلاق هنا مرتبطة بموضوع ملموس نتيجة الانتصارات العلمية التطبيقية . هذا يعني أن القيم الأخلاقية انتقلت من أخلاق نظرية إلى أخلاق تطبيقية . والتي هي مجموعة من القواعد الأخلاقية العملية تسعى لتنظيم الممارسة داخل مختلف ميادين العلم والتكنولوجيا والتي تنص على قواعد وقوانين لضبط السلوكيات الأخلاقية , وبالتالي تهتم بالعديد من الواجبات المختلفة مثل : واجب الإنسان نحو نفسه , ونحو ربه , وعائلته , والوطن , والإنسانية بصفه عامه . ولذا عنيت الفلسفة بهذه المهمة وأخذت الدور البارز في هذا المجال وهو مناقشه النتائج العلمية , من خلال مبحثها وفروعها الجديدة مبحث الابستمولوجيا وهو حقل خصب للتفكير الجاد في مسائل العلوم استطاع أن يجلب له عدداً كبيراً من الباحثين .

إن التقهقر الذي الحقته التقنيات العلمية بقيمة الإنسان والمجتمع , يبدو أنها أصبحت في دائرة الخطر , وأثارت العديد من القضايا الفلسفية والاجتماعية , وبسبب هذه التقنيات العلمية دخلت البشرية حقبة , أو عصر جديد من التطورات , وبالتالي نجد أن هذه التطورات فتحت آفاقاً واسعة أمام الإنسان في مجال البيولوجيا والعديد من المجالات الأخرى . فحتى الأخلاق ذاتها باتت مهددة , ومن ورائها قدسية الإنسان .

لقد فتحت ثورة التقنيات العلمية آفاقاً جديدة أمام الإنسان المعاصر , سواء في مجال العلوم الفيزيائية , أو البيولوجيا المعاصرة , أو المعلوماتية إلى درجة أصبح معه العلم قادر على تغيير الطبيعة , وتغيير الكائنات الحية بما فيها الإنسان ؛ لأن العلم المعاصر يمتلك سلطات جديدة ناشئة عن تطور التقنيات في ميدان الطب , وعلوم الحياة , والهندسة الوراثية . مما ينبئ بتحولات جذرية في علاقة الإنسان بجسمه , وبهويته , وبمستقبله , وبقيمه . مما يجعله لا يبعث بالضرورة على التفاؤل والثقة كما هو الحال عبر تاريخه بل أصبح يرتبط بالقلق والخوف من المستقبل الذي يرسم ملامحه .

هذه التقنية العلمية أدت إلى تغير النظرة إلى الإنسان , من ذلك الكائن المقدس إلى مجرد ظاهرة , مثله مثل بقية الظواهر الطبيعية الأخرى , وبالتالي أصبح موضوعاً للتجريب العلمي لابد أن يكون الدافع هو مصلحة الإنسان المتمثلة في تحريره من مختلف الحتميات , لكن ماذا وراء التحرر إذا كان الإنسان يمثل فيه حقل التجارب , هذا من دون شك يثير تساؤلات كثيرة حول قيمة الإنسان ؟ ومصيره ؟ ووظيفته في هذا الوجود ؟ …. وغيرها من التساؤلات التي لا تجد لها في العلم حلولاً مناسبة بالرغم مما يمتلكه من أدوات ووسائل . فعوض أن يوصل التقدم التقني الإنسان إلى السعادة والأمان قام بتعزيز السيطرة المفروضة على الأفراد , وبهذا أصبح التفكير في قضايا العلم ونتائجه , يفرض نفسه في راهن الفكر العلمي والفلسفي , وهذا يؤكد مشروعية التفكير حول الواقع وما يفرزه من مظاهر تتعلق بالفرد والمجتمع , لذلك كانت العلوم البيولوجية والطبية في صميم اهتمامات الباحثين خصوصاً عند اقترانها بالأخلاق . صحيح أن كثيراً مما كان يعجز الإنسان عن حله من المشكلات تخص الإنسان أصبح اليوم ممكن الحل , لكن حيرة الإنسان تزداد كلما ذاد العلم تقدماً , ولعل هذا راجع للتساؤلات التي تشغل باله وكذا الحلول المقترحة في هذا الشأن , الأمر الذي غير من نظرته لنفسه وللحياة وللآخرين . وأدت إلى ظهور انزلاقات أخلاقية لم يسبق لها مثيل , فقد أصبحت تثير مخاوف وقلق حول كرامة وقدسية الإنسان . وها هو الفكر الفلسفي يعمل على اللحاق بالتسارع الذي تتحرك به العلوم والتقنيات , وذلك بترك القضايا الفلسفية المقررة والمتجاوزة التي شغلته منذ النصف الثاني من القرن الماضي . لذلك بدأت تتشكل حقبة فلسفية جديدة تنشطها جماعات البحث في ميادين حياتية مختلفة وتهتم بمواضيع الفلسفة السياسية , وفلسفة البيئة , وفلسفة الطب , والبيولوجيا .

وما زاد من حدة الطرح الأخلاقي على مستوى علم الحياة هو توسع النزعات المادية على حساب القيمة الروحية والأخلاقية , وهو ما دفع بالمفكرين والفلاسفة بالنظر في القوانين , التي يتم من خلالها التشريع لما يحفظ الكرامة البشرية وإعادة صياغة مناهج جديدة , يمكنها أن تحتوي العلوم بهدف تخليص العلم من نرجسيته وتمسكه بمقاليد العلم في العصر الحديث , كل هذا في كنف الأخلاق التي حركت شعوب العالم , على الرغم من اختلاف عقائدهم وايدولوجياتهم , وهو ما يستدعي ضرورة الأخلاق الكونية , الأخلاق التي لا تعرف لا ثبات , ولا طوياوية في الطرح . كما جاءت محاولات فلسفية كاحيائية الموروث الفلسفي والديني القديمين , ونظراً للطابع الأحادي الذي يعرفه العلم , وعلى وجه الخصوص البيولوجيا , وجب تكوين رؤيا تكاملية للمعرفة المستقاة من الطبيعة . إن منجزات التقدم العلمي الحاصلة في مجال التقنيات الحيوية والطبية لا تعود دائماً بالخير على البشرية وذلك لأنه ليس كل ما هو ممكن تقنياً وعلمياً , يعني بالضرورة أنه يحقق الخير , والمنفعة للبشرية . إن ثورة التقنيات العلمية وتداعياتها الأخلاقية تحتاج إلي مزيد من البحث والدراسة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!