عاجلمقالات الرأى

في قصة “ذا النون”.. مناجاة وحقائق وظنون

في قصة “ذا النون”.. مناجاة وحقائق وظنون

رحلة يونس إلى الحج
للرحلة في القرآن طابع مختلف فهي متصلة بالواقع مرتبطة به أشد الارتباط مع اختلاف ظروف كل رحلة ونوعها عن الأخرى، هذا وقد تحدث القرآن عن بعضٍ من هذه الرحلات وخلّد ذكراها، منها ما كان دينيًا على نحو رحلة الإسراء والمعراج التي كانت تسرية لنبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو رحلات السادة الأنبياء والمرسلين في تبليغ رسالات الله على نحو رحلة سيدنا موسى إلى مدين، وما حدث بينه وبين تلك السيدتين، ورحلة العودة لتحمل الرسالة، ورحلته لميقات ربه، ورحلته بصحبة بنى إسرائيل لدخول الأراضي المقدسة.
كما تحدث القرآن عن الرحلات التعليمية على نحو ما كان من نبي الله موسى والخِضر عليهما السلام ويالها من رحلة!!!..
وتحدث كذلك عن الرحلة التجارية على نحو ما كان لقريش في الشتاء والصيف، وأيضا تناول الرحلة لأهداف سياسية كرحلة بلقيس لسليمان عليه السلام، وحتى الرحلة التي من الممكن أن نطلق عليه استكشافية كرحلة ذي القرنين في مشرق الأرض ومغربها نجد لها مكانًا في القرآن الكريم.
ولا تقتصر نوعية الرحلات في القرآن عند ذلك بل تعرض إلى جانب أخر من الرحلات يتعلق بالغيب ويرتبط بالماضي السحيق والمستقبل البعيد فيما يعرف برحلة ما قبل الخلق وما بعده بل ورحلة الخروج من الحياة الدنيا مرورا بحياة البرزخ حتى المستقر الأخير إما جنة أبدا أو نار أبدا.
فما أكثر الآيات التي تناولت هذه الرحلات بجميع أنواعها فمن الآيات التي عرّجت على رحلة الآخرة ما جاء في قوله تعالى :(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ).
ومن الرحلات التي سجلها القرآن في آياته ما كان من رحلات الأنبياء إلى بيت الله الحرام.
صحيح أن الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام كانت لهم رحلات أخرى كما أشرنا، سجل القرآن بعضها، وكل هذه الرحلات بالطبع لها أهداف تتعلق بالعقيدة، وترتبط بالدعوة، وتحكي طرفا من معاناتهم وجهادهم في سبيل إعلاء كلمة الحق، وتبليغ رسالات الله إلى الخلق.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هل حج أنبياء الله جميعا قاصدين بيت الله الحرام؟ خاصة أن القرآن لم يشر إلى ذلك على نحو من التفصيل؟ وإذا كانت الإجابة بالإثبات فهل ورد في السنة ما يؤكد ذلك؟!
دعونا نقرر أولا:
كان أساس بيت الله الحرام موجوداً قبل إبراهيم ولكنه اندثر، وتهدم بسبب عوامل بيئية، ونتيجة إهمال الناس له، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، وعندما قدم النبي إبراهيم إلى هذا الوادي، كان يعلم بوحي من الله أن هذا المكان فيه بيت الله الحرام، اقرأ قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} ، ولم يكن البيت قد ارتفعت قواعده بعد، وبعد مضي فترة زمنية أمر الله إبراهيم برفع قواعد البيت، وإظهاره على سطح الأرض، فاستجاب خليل الله إبراهيم، وساعده إسماعيل في تنفيذ أمر الله عز وجل، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
وبعد أن انتهى من البناء، أمره الله أن يُؤذّن في الناس بالحج إلى بيت الله الحرام، فقال: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }
والسؤال الذي يفرض ذاته هو، ألا يشمل الأذان بالحج إسحاق ابن إبراهيم؟ ويعقوب ابن إسحاق؟ ويوسف ابن يعقوب؟ أليسوا أولى بالاستجابة من الناس الآخرين؟
والجواب معروف، هم أوَّل من استجاب لنداء أبيهم إبراهيم طاعة لله، مما يدل على أن جميع الأنبياء والرسل قبل النبي إبراهيم، كانوا يحجُّون إلى بيت الله الحرام، بدليل وجود قواعد البيت، وبعد أن رفع إبراهيم القواعد، عاد الأمر إلى ما كان عليه من توجه الأنبياء والرسل إلى حج البيت، فالنبي موسى وأتباعه، والنبي عيسى وأتباعه، وغيرهم من المسلمين كانوا يحجون إلى بيت الله الحرام، اقرأ قوله: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }، والآية مُوجَّه إلى موسى عليه السلام من والد زوجته للعمل عنده، لاحظ استخدام كلمة (حِجَج ) وهي جمع لكلمة (حِجّة )، وذلك لا يكون إلا لبيت الله الحرام، اقرأ قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا)
وثانيا: إن ظاهر آية: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض، فتمسّك بهذا الظَّاهر مجاهد، وقتادة، والسّدي، وجماعة، فقالوا: هي أوّل بناء، وقالوا: إنَّها كانت مبنيّة من عهد آدم عليه السلام ثُمّ درست ، فجددها إبراهيم
وفي سبب نزول الآية قال الواحدي ، عن مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المَقْدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنَّه مُهَاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله هذه الآية .
وهناك فائدة تُفهم من قوله إن أول بيتٍ وهي إنَّما كانت الأوّلية موجِبة التّفضيل لأنّ مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة، إذ هي في ذلك سواء ولكنَّها تتفاضل بما يحفّ بذلك من طول أزمان التعبّد فيها ، وبنسبتها إلى بانيها ، وبحسن المقصد في ذلك ، وقد قال تعالى في مسجد قُبَاء: {لمَسجِدٌ أسِّسَ على التَّقوَى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه}.
وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحقّ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون، فإنّ إبراهيم بنى الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمانَ بنى بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول. وأمَّا بيتُ المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره.
والفائدة الثانية أن الله سبحانه وتعالى جمع لهذا البيت الكريم حالتين خاصتين به لم تجتمعا في بيت غيره، فهو قد اشتمل على البركة المادية والمعنوية، وحماه الله تعالى من اعتداء المعتدين، ولهذا قال: “وهدى للعالمين” أي: هو بذاته مصدر هداية للعالمين، أي: للناس أجمعين؛ ففي وسط الشرك كانوا يلتحمون ويتقاتلون حوله، فإذا جاءوا إليه كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يمسه بسوء لعظم حرمة البيت في قلبه، وإن مس الشرك نفسه. والذين أرادوه بسوء ما إن جاءوا إليه حتى ارتدوا على أدبارهم خاسئين؛ وبذلك ثبتت حرمته، وأشع نوره لغير العرب، كما امتلأت قلوب العرب بحرمته، وبعد الإسلام كان قبلة المسلمين في كل العالمين ومزارهم وموضع مؤتمرهم الأكبر، وإلى البيت الحرام يأرز الإسلام، فكون هذا البيت العتيق مصدر هداية ثبت جاهلية وإسلاما، وهدايته في الإسلام مطلقة، وهدايته في الجاهلية نسبية.
ثالثا: وعليه فإن بيت الله الحرام هو أول بيت بني في الأرض؛ وقيل: إن الملائكة بنته لآدم؛ كما ورد في بعض الآثار؛ وليس ثمة مانع عقلي؛ إن الذي يبدو من خلال الآيات: أنه أول بيت من بيوت العبادة القائمة؛ فهو أسبق من بيت المقدس وجودا؛ وهو أجمع للديانات السماوية من بيت المقدس؛ لأن إبراهيم أبا الأنبياء أصحاب هذه الشرائع الباقية هو الذي بناه؛ بينما بنى بيت المقدس في عهد داود وسليمان عليهما السلام .
فوجود مقام إبراهيم بالبيت الحرام، وآثار أقدامه الشريفة دليل على مكانة هذا البيت من ملة إبراهيم عليه السلام، وأما ما يدعيه اليهود من وجود آثار هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، فلم يقم عليه دليل ولا بينة.
هذا وقد قال أبو المعالي الجويني -رحمه الله: “ما من نبي إلا وقد حج هذا البيت”
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله: “مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ حَجَّ الْبَيْتَ، خِلافًا لِمَنْ اسْتَثْنَى هُودًا وَصَالِحًا”
وهما قد اختصرا ما فصّله عروة بن الزبير؛ إذ قال: “ما من نبي إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح.
ولقد حجه نوح، فلما كان من الأرض ما كان من الغرق أصاب البيت ما أصاب الأرض، وكان البيت ربوة حمراء، فبعث الله -تعالى- هودًا، فتشاغل بأمر قومه، حتى قبضه الله تعالى إليه، فلم يحجه حتى مات.
ثم بعث الله -تعالى- صالحًا فتشاغل بأمر قومه، فلم يحجه حتى مات.
فلما بوأ الله سبحانه لإبراهيم حجه، لم يبق نبي بعده إلا حجه”
ولكن ابن كثير قد ذكر حجهما -عليهما السلام
وإذا لم يبق من الأنبياء إلا عيسى عليه السلام ينتظر الجميع نزوله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيثْنينهُمَا”.
وما الحديث عن هذه الرحلات إلا لتأكيد أن طريق الأنبياء واحدة، وقبلتهم واحدة، ودينهم واحد، وأن مرسلهم ومبتعثهم واحد، هو الله -جلّ جلاله. وأن هذا الركن تهواه الأفئدة، وتسعى إليه النفوس والفطر السليمة. وأن هذا النداء الأزلي الذي ناداه أبونا إبراهيم أولى الناس بإجابته والإسراع لتلبيته هم الأنبياء والمرسلون”.
رابعًا: هذا ولقد جاء في السنة الصحيحة ما يؤكد حج بعضًا من أنبياء الله تعالى على نحو موسى ويونس عليهم جميعًا الصلاة والسلام.
فعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق، فقال: «أي واد هذا؟» فقالوا: هذا وادي الأزرق، قال: «كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطا من الثنية، وله جؤار إلى الله بالتلبية»، ثم أتى على ثنية هرشى، فقال: «أي ثنية هذه؟» قالوا: ثنية هرشى، قال: «كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة وهو يلبي»، قال ابن حنبل في حديثه: قال هشيم: يعني ليفا
‏‏قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: أَكْثَر الرِّوَايَات فِي وَصْفهمْ تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى ذَلِكَ لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَة أَبِي الْعَالِيَة عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَفِي رِوَايَة اِبْن الْمُسَيَّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْر التَّلْبِيَة.
قَالَ : فَإِنْ قِيلَ كَيْف يَحُجُّونَ وَيُلَبُّونَ وَهُمْ أَمْوَات وَهُمْ فِي الدَّار الْآخِرَة وَلَيْسَتْ دَار عَمَل فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمَشَايِخِ وَفِيمَا ظَهَرَ لَنَا عَنْ هَذَا أَجْوِبَة: أَحَدهَا أَنَّهُمْ كَالشُّهَدَاءِ بَلْ هُمْ أَفْضَل مِنْهُمْ وَالشُّهَدَاء أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ فَلَا يَبْعُد أَنْ يَحُجُّوا وَيُصَلُّوا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث الْآخَر وَأَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّه تَعَالَى بِمَا اِسْتَطَاعُوا”.
وقد نقل عن القاضي عياض أيضًا إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِى حالهم قبل هذا ومُثِلوا له فى حال حياتهم وكيف تلبيتهم حينئذ وحجهم كما قال فى الحديث.
وعليه إن رحلات الحج هذه قد وقعت من نبي الله موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء حال حياتهم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُريها وأَخبر عنها؛ إذ إن أحوال الآخرة لا تحتاج لأسباب الدنيا من إبل وبعير التي ينتقل بها الناس ويحتاجون إليها.
يا لها من شهادة في حق نبي الله يونس من نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي أخذ عهدًا على نفسه بأن يرد كل حق يمس نبيًا من الأنبياء، حتى تنهج الأمة نهجه وتسير على دربه، ومع نبي الله إبراهيم عليه السلام نلتقي وإياكم في حلقة جديدة أخرى إن شاء الله، إن قدر الله لنا الحياة والبقاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!