عبقرية الإدارة.. بين الطائف والهجرة
بقلم د/مصطفى النجار
يستند تقييم الأعمال لما تفضى إليه من نتائج وما تحققه من أهداف ، تلك نظرية الإدارة بالأهداف (MBO) التى وضعها بيتر دركر 1945، أحد الإتجاهات الإدارية التى تعتبر النتائج النهائية للأعمال معيارا للحكم على كفاءة الإدارة والموظفين ، ويتم بموجبها تحديد الأهداف وتوفير الإمكانات وتوجيه الجهود للوصول للنتائج ، ثم الرقابة لتحديد ما لم يتم إنجازه ، ودراسة الأسباب ووضع الحلول وشحذ الجهود فى ضوء الخبرات والمهارات والقدرات التى اكتسبها العنصر البشرى من المحاولة الأولى ، والتى تمكنه فى الثانية من إنجاز ما لم يتم إنجازه.
فليس فى قاموس الطامحين أولو العزائم فشل ، محاولة تتعلم فيها الدروس وتكتسب الخبرات والمهارات والقدرات ، والأخرى تحقق فيها الإنجازات والأهداف والغايات.
وحين أتأمل سيرة سيدنا صلى الله عليه ، أقف فخورا مغرما متيما ، لعبقرية إدارية عز التاريخ أن يجود بمثلها ، فما كان له أن يحدث هذا التحول الهائل الشامل الضخم فى العقائد والقيم والأخلاق والمجتمعات والكون والإنسان دون امتلاك الرصيد الأوفر من القدرات والمهارات ، التى تمكنه من إدارة التغيير عن كفاءة واقتدار ، ذلك الرصيد الذى شكلته الأزمات و صقلته المعاناة ، والذى ولد من رحم المحن والآلام ، وذلك شأن العظماء.
لقد كانت رحلة الطائف تجربة قاسية مريرة ، دفع النبى فيها من دمه الشريف ما أحزن الأرض و أغضب السماء ، ذهب ليطلب النصرة والمنعة من ثقيف ليبلغ رسالته النبيلة ، فأغروا سفهاءهم بالحجارة يقذفوه ، فسال الدم الشريف ظلما وعدوانا ، ووقف زيد خادمه درعا يتلقى الحجارة بصدره يدافع عن نبيه دفاع الأسود.
ويستنصر النبى ربه يناجيه ” اللهم إنى أشكو اليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس ، أنت رب المستضعفين وأنت ربى ، إلى من تكلنى إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمرى ، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل على غضبك أو ينزل بى سخطك ، إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى لكن عافيتك أوسع لى ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”.
ويأتيه من السماء ناصرا ، ملك الجبال مرنى يا محمد أطبق عليهم الأخشبين “جبلين فى الطائف” يقول النبى النبيل والدماء تسيل “عسى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شىء ” ما أرحمك وأكرمك سيدى ، ويال عجز الكلمات وسيل العبرات ، أظلمت الدنيا حين خلت من تعاليمك سيدى ، وشقى الناس حين ارتضوا بغيرك قدوة ومثلا.
وتنبثق أنوار المنحة من ظلمات المحنة ، فلقد كان من أعظم ثمار تلك التجربة على قسوتها ، تحول النبى من البحث عن بيئة صالحة لدعوته إلى صناعة تلك البيئة ، بملامح وسمات حددها ، وخطة تنفيذية متدرجة بعيدة المدى وضعها ، ليضمن عدم تكرار تلك الحادثة الأليمة.
وبدأت العبقرية النبوية فى ضوء تجربة الطائف ، تحدد ملامح دار الهجرة من نصرة ومنعة وعدد وعدة ، قوة تحمى الحق ضد باطل غشوم يتربص به ، فكان الصديق يستطلع تلك السمات والمعايير فى القبائل قبل استهدافها للقاء النبى للدعوة والبيعة.
وكانت إشراقات البدء وفدا ، ستة من الخزرج دعاهم وقرأ عليهم القرآن ، فقالوا هذا النبى الذى تتوعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه ، فأسلموا وولوا إلى قومهم بالمدينة داعين ومنذرين ، فما بقى بيت من الأنصار إلا ولمحمد فيه ذكر ، وجاءوا فى العام التالى موسم الحج بمكة ، عشرة من الخزرج واثنان من الأوس ، أسلموا وبايعوا النبى ” بيعة العقبة الاولى” على ألا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يعصينه فى معروف ، وبعث معهم للمدينة سفيرا مصعب بن عمير يدعوا ويعلم القرآن والصلاة ، فأسلم أكابر الأنصار سعد بن معاذ و أسيد على يدى مصعب الخير والإخلاص واللباقة والحكمة وأسلم الكثير بإسلامهم .
وفى العام الثالث قدم لمكة سبعين من الأنصار نضجت ثمار الإيمان بقلوبهم ، ونمت معالم الهدى فى نفوسهم ، قالوا علام نبايعك يا رسول الله ” بيعة العقبة الثانية ” قال ” على السمع والطاعة فى النشاط والكسل ، والنفقة فى العسر واليسر ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، و أن تقولوا فى الله لا تخافون لومة لائم ، وأن تنصرونى وتمنعونى إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم أزواجكم وأبنائكم” قالوا وماذا لنا قال ” لكم الجنة ” ، فبايعوا وأصبح للإسلام درع وسيف ، يردع به الباطل الظلوم ، لتكون العاقبة للمتقين وليعلم الظالمون أى منقلب ينقلبون.
لقد كانت لرحلة الطائف على مرارتها فضل التأسيس الفكرى والإدارى والعملى لنجاح الهجرة ، ذلك الحدث الذى غير وجه التاريخ والكون والإنسان ، والذى صنع من رعاة الغنم سادة للأمم ، وضعوا أحد أقدامهم فى الصين شرقا والأخرى فى الأندلس غربا ، فكانت الهجرة إشراقا لحضارة تتصل بالخالق و إلى الوحى تنتسب.
ووالله إن ثمار و أنوار تجربة الطائف لبادية جلية فى عبقرية الإعداد للهجرة ، أنظر سمات القبائل التى اختارها النبى للدعوة والبيعة ، وملامح البيئة التى صنعها بالمدينة ، تأمل التدرج مع الأنصار من بيعة العقبة الأولى للثانية ، دقق فى بنود العقبة الثانية ، تأمل التغيير الإيمانى لأنصار المدينة على المدى الطويل قبل الهجرة ، تدرك أن كل هذه الإجراءات والتحولات لضمان منع تكرار تجربة الطائف الأليمة ، وتلك هى الزهور المشرقة والثمار اليانعة لتلك المحنة.
فاغتنم من كل معاناة منحة ومن كل ألم حكمة وعبرة ، فتجارب الحياة تجربة مريرة تعلمك وتصقل قدراتك وخبراتك ومهاراتك ، لتعدك لتجربة أخرى تصل فيها لأهدافك وغاياتك ، ذاك ما تعلمته من سيرة النبى الكريمة ورسالته النبيلة ، وصلى الله على من علمنا الكتاب الحكمة .
وكل عام وأنتم ومصر والعالم بالف خير
Post Views: 767
التالي
منذ 8 ساعات
تفاصيل إحتفالات أكاديمية طيبة بمناسبة اليوبيل الفضى للأكاديمية
منذ 8 ساعات
العمل التطوعي أيقونة تقدم المجتمع
منذ 11 ساعة
نتيجه انتخابات جمعيه الهلال الاحمر بالقليوبيهنتيجه انتخابات جمعيه الهلال الاحمر بالقليوبيه
منذ 12 ساعة
حُسنى المغربية تطرح “شوف مين” وتقدم أغنية وطنية لمصر
زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!